محاضرة: منهج توثيق التراث الشعبي
تنشيط مصطفى جاد، المعهد العالي للفنون الشعبية، (مصر)
الخميس 13 أفريل 2017 على 14سا00
(بمقر المركز).
الملخص:
إذا تأملنا حركة بحث التراث الشعبي العربي (التراث غير المادي) منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن، سنلحظ اهتمامًا وتقدمًا في إطار عمليات جمع التراث الشعبي من الميدان، فواقع البحث الفولكلورى العربى خلال هذه الفترة، يشير إلى أننا قد وصلنا إلى مرحلة مستقرة فيما يخص مناهج البحث الميدانى، فأصبح لدينا أدلة للجمع الميدانى تميزت عن سائر الأدوات فى العلوم الأخرى، كما استفدنا بمناهج الملاحظة والملاحظة بالمشاركة والمقابلة وغيرها من مناهج البحث الأنثروبولوجى التى تم توظيفها فى البحث الفولكلورى.
وقد واكبت عمليات الجمع الميداني جهود متفرقة هنا وهناك في عمليات الحفظ والتوثيق، غير أن هذه الجهود- على الرغم من أهميتها- لم تكتمل ولم ترق لمشروع موحد على المستوى الوطني، أو مشروع عربي مشترك، حتى نقف على ملامح التنوع والتشابه في ثقافتنا الشعبية المحلية والعربية.
سنطرح في هذا اللقاء كيف يمكن أن نوثق هذا التراث بخلفية منهجية علمية، قائمة على التوسل بتقنيات التوثيق المستخدمة في العالم، وعلى رأسها علم المكانز.. وقد كانت لنا تجربة في إعداد مكنز الفوكلور، والذي قمنا بتقديم عشرات الورش التطبيقية لتنفيذه على المستويات الوطنية والعربية. والمكنز هو قائمة بالواصفات المرتبطة بالتراث والمأثور الشعبى وعلاقاتها التكافؤية والهرمية والترابطية، ويكون ترتيب وعرض الواصفات وعلاقاتها بما يخدم بكفاية وفاعلية في تحليل محتوى المادة الفولكلورية، وتستخدم واصفات المكنز فى تكشيف واسترجاع عناصر الظواهر الفولكلورية بوسائطها المتعددة.
والخطوة التالية فى التوثيق هى منهجية عرض المادة الفولكلورية. فهل سنقدم المادة الفولكلورية فى صورتها الخام؟.. بمعنى: هل سنقدم جميع ما يسرده الإخبارى أو الراوي دون ضبط ؟.. هل ندخل جميع الصور الفوتوغرافية والمادة الفيلمية كما هي دون أى تدخل منا؟ . واقع الأمر أننا مطالبون فى عملية عرض المادة الفولكلوية باستخدام منهج من شأنه أن يقدم هذه المادة صالحة مباشرة للبحث والتحليل العلميين. ومن ثم فنحن فى حاجة لاستعارة المنهج المتبع فى علم الاستخلاص، كما استعرنا من قبل منهج علم المكانز. مع توظيف هذا كله فى إطار علم الفولكلور.
الهدف من هذا كله هنا هو إعداد أرشيف رقمي لحفظ التراث الشعبي واسترجاعه بوسائطه المتعددة من نصوص ومواد صوتية ومرئية وصور فوتوغرافية. وإذا كانت بيانات المادة الميدانية محددة المكان والزمان، فإن التوثيق الموضوعي بات هو القضية الأهم في منهج التوثيق.. فضلًا عن العلاقات التشعبية التي تربط عناصر المادة الشعبية، فعادات الزواج في أي مجتمع تنطوي على طقوس اختيار الشريك والخطبة والزفاف وعقد القران وغيرها، كما تتضمن أغاني الزواج في المراحل المختلفة والرقص، وكذا أزياء الزفاف، وهناك أمثال الزواج، وحكايات مرتبطة بالزواج..إلخ. كيف يمكننا إذن توثيق هذه العناصر- التي ينتمي كل منها إلى نوع مختلف عن الآخر: عادات وتقاليد- رقص شعبي- موسيقى شعبية- أدب شعبي- فنون تشكيل..إلخ، كيف يمكننا توثيقها في إطار علاقات ترابطية بينها.
في منطقتنا العربية لا نملك حتى اللحظة أرشيفات وطنية أو إقليمية يمكننا من خلالها استرجاع- مثلاً- حكايات شعبية جمعت من وهران لمقارنتها بحكايات تلمسان أو بسكرة، ولا نملك من ثم بوابة تمكننا من استدعاء عناصر المعتقدات الشعبية السحرية في جنوب المغرب، وتتبع نظائرها في مصر والشام والخليج العربي..إلخ.
المسألة بطبيعة الحال تتجاوز مجرد جمع أشرطة وأفلام مسجلة وآلاف الصور وتجميعها في هذا المركز أو ذاك، فمؤسساتنا العربية حافلة بهذه المواد دون تحقيق الاستفادة المرجوة منها، وهناك مئات من المواد تم جمعها وتخزينها ولم يتم استرجاعها منذ عشرات السنوات.. فالأمر يحتاج إلى منهج علمي كما أشرنا يجعلنا نتمكن من معرفة بيانات هذه المادة وتتابعها الموضوعي والجغرافي والزمني، وعلاقاتها بغيرها من مواد لتحقيق بحث علمي أفضل، أو رصد لمتغيرات ظاهرة شعبية نريد معالجتها تنمويًا، أو توظيف المادة الفولكلورية في إتجاه اقتصادي، أو منحى إبداعي.. وكذا الوقوف على خطة منهجية للجمع الميداني في المرحلة المقبلة.
ولذلك فالأمر يحتاج إلى تكوين فريق عمل محترف لإنجاز مثل هذا الأرشيف، فريق يشمل متخصصون في التراث الشعبي، وعلم المعلومات، وقواعد البيانات، والتصوير الفوتوغرافي والفيديو، والطباعة والنشر لينهض بهذا العمل. ويسبق ذلك بالطبع خطة عمل زمنية وورشة عمل تجمع هذا الفريق للبدء في التنفيذ.
منهج توثيق التراث الشعبي في هذا الإطار ليس منهجًا نظريًا يقوم على تحليل مادة وتفسيرها كما اعتدنا في البحث الفولكلوري والأنثروبولوجي.. بل أننا أمام منهج- أشبه بالمشروع- لا يصح إلا بالتطبيق العملي وحشد الجهود لتنفيذه.